عن مدينة كطرابلس

Tripoli,_Lebanon_photos,_Aug_2012

بقلم باسكال صوما

 من الغرابة أن تكتب عن مدينة كطرابلس. من الغرابة أيضاً أن تقع في غرام مدينة كطرابلس، وأن تشتاق إليها كثيراً، وأنت لم تزرها سوى مرةٍ واحدة.

لكن يصحّ القول إنّ بعض المدن تسكننا بدل أن نسكنها.

زرتها مرّةً واحدةً، في يومٍ ماطرٍ جداً، أراد خلاله القتل أن يأخذ استراحة نقاهة. فبعدما أجلّت الزيارة أكثر من عشر مرات بسبب جولات القتال المتجدّدة، ذهبت إلى طرابلس. كان اللقاء يومها أمسية شعرية لي في “الرابطة الثقافية” في مدينة يخشى منها الجميع، ويشبّهونها بكندهار تارةً وباكستان طوراً. وكنت مع كلّ خطوةٍ أسأل نفسي: “ما معنى الشعر في مدينة تجرّ قدميها من جنازة إلى جنازة؟ هل ستشتعل المعارك؟ هل سأموت اليوم؟ هل سيقتلونني إذا ألقيت قصيدة غزل؟”. كان معي قصيدة “مساء الحياة يا طرابلس”. كتبتها بعد ألف محاولة فاشلة للتعبير عن مدينة أجهلها تماماً، باستثناء ما يعلق في بالي عن نشرات القتل والحقد والخوف العابر للأزمنة. تقول القصيدة “مثلك أنا يا طرابلس، مدينة مطوية على ألف سنة حزن وتمرّد”. لم أكن أدري طبعاً أنني أصبت إلى هذا الحدّ. لكنّني عدت من هناك مذهولة. طرابلس تشبهني أكثر ممّا كنت أظنّ. وطرابلس غريبة. وطرابلس جميلة ومختلفة.

الناس في طرابلس بسيطون، لكنهم يقرأون الكتب ويحبّون الشعر. الطرقات مزدحمة، نظيفة. الأسواق قديمة، تكاد تخرج من أبواقها أغنيات فيروز أو السيد درويش. القطط مشرّدة، إنما حرّة. الفقراء كثرٌ، لكن سعداء.

لم أزر طرابلس منذ ذلك اليوم أي منذ أشهر، برغم الخطة الأمنية واستتباب الأمور. ربّما لأنّها مدينة تعشق في الخطر وتجوز فيها المخاطرة. ربّما لأنّني أحبّ الأشياء في غيابها. ربّما لأنّني ما زلت أخاف من موتٍ ما. ربّما لأنّها كالحبّ تعبر العمر مرّةً، وتبقى إلى حين. 

شارك الخبر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Facebook IconYouTube IconTwitter IconFollow us on Instagram