هنا
باسكال صوما
في هذه المدينة الكثيفة بالإسمنت والمصارف والشركات والمولات، يموت الناس جوعاً، يموتون قهراً وفقراً وتهميشاً. يموتون أحياناً لأنّ المستشفيات على كثرتها رفضت استقبالهم، أو لأنّ مستوصفاً أو صيدلياً أعطاهم دواءً مغشوشاً.
تجدهم في كلّ مكان إلاّ حيث يريدون أن يكونوا. لاجئون، فارّون من وجه الدنيا.
ولأنّ الحياة كإسمنت المدينة، يجرّك الحلم إلى هذا التلوّث. كأنّ حلمك مقرونٌ بقدرتك على تنشّق التلوّث. بقدرتك على التصبّر وتأجيل عادّة التنفّس، وتخدير رئتيك يوماً بعد يوماً.
هنا تجد الناس يبتسمون بدافع الواجب ويحزنون أيضاً بدافع الواجب. يغرمون، يمارسون الجنس، ينجبون الأطفال، يطلّقون أزواجهم، يخونون أصدقاءهم بالدافع نفسه.
هنا لن تلتقي برجلٍ يزرع الباثنجان أو امرأة تحضّر ورق العنب “المحشي”، أو طفلاً يلعب بالتراب. هنا لن يباغتك أحدٌ وسط الطريق ليسألك إن كنت عطشاناً أو ضللت الطريق.
هنا الجميع منشغل بالسير نحو حتفه. الرجال يقطفون النساء ليزيّنوا طاولةً أو سريراً. النساء يرشقن رجالهنّ بالشبق والعقد وأحياناً بالورد والنرجس والنرجسية. العجائز لا أخبار في أفواههم سوى أسعار الأدوية الغالية، ونصائح الطبيب الوسيم. الأمهات بدل الوزرة يلبسن التعب والوقت الضائع. الآباء يتفقّدون قياس الحائط ألف مرّة في السنة، حتّى يتأكّدوا أنّ مالهم لم يذهب هدراً، وأحياناً يقبّلون الأطفال قبل النوم، بدافع الواجب أيضاً.
هناك حيث كنّا نريد أن نكون. هناك لا إسمنت في البحر. لا غبار على الفاكهة. لا خوف في عيون الصغار. لا ضريبة على القهوة. هناك حيث تركنا حلمنا ونزحنا إلى هنا…